الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **
وَلَمَّا ذَكَرَ النَّاظِمُ جُمَلًا مِنْ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ يَحْصُلُ لِمَنْ حَصَّلَهَا إنْ لَمْ يُدَارِكْهُ لُطْفٌ وَيُلَاحِظْهُ تَوْفِيقٌ إعْجَابٌ وَكِبْرٌ حَذَّرَ مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ:
وَإِيَّاكَ وَالْإِعْجَابَ وَالْكِبْرَ تَحْظَ بِالسَّعَادَةِ فِي الدَّارَيْنِ فَارْشُدْ وَأَرْشِدْ (وَإِيَّاكَ) أَيُّهَا الطَّالِبُ الَّذِي حَصَّلَ أَسْنَى الْمَطَالِبِ (وَالْإِعْجَابَ) أَيْ احْذَرْهُ وَانْفِرْ مِنْهُ وَلَا تُسَاكِنْهُ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَصْدُرُ عَنْ رُؤْيَةِ النَّفْسِ وَالرِّضَا عَنْهَا وَاسْتِشْعَارِ وَصْفِ كَمَالٍ . وَتَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ بِأَنَّ الْكِبْرَ خُلُقٌ بَاطِنٌ يَصْدُرُ عَنْهُ أَعْمَالٌ , وَذَلِكَ الْخُلُقُ هُوَ رُؤْيَةُ النَّفْسِ فَوْقَ الْمُتَكَبَّرِ عَلَيْهِ , وَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مَنْ يَتَكَبَّرُ عَلَيْهِ . وَالْعُجْبُ يُتَصَوَّرُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ غَيْرُ الْمُعْجِبِ . وَقَدْ يَكُونُ الْكِبْرُ نَاشِئًا عَنْ الْعُجْبِ , فَإِنَّ مَنْ أُعْجِبَ بِشَيْءٍ تَكَبَّرَ بِهِ . قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إنَّمَا يَكُونُ الْعُجْبُ لِاسْتِشْعَارِ وَصْفِ كَمَالٍ , وَمَنْ أُعْجِبَ بِعِلْمِهِ اسْتَعْظَمَهُ , فَكَأَنَّهُ يَمُنُّ عَلَى الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِطَاعَتِهِ , وَرُبَّمَا ظَنَّ أَنَّهَا جُعِلَتْ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مَوْضِعًا , وَأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْجَبَ بِهَا جَزَاءً . وَمَنْ أُعْجِبَ بِعَمَلِهِ مَنَعَهُ عُجْبُهُ مِنْ الِازْدِيَادِ . وَعِلَّةُ الْعُجْبِ الْجَهْلُ الْمَحْضُ . (وَ) إيَّاكَ وَ (الْكِبْرَ) فَإِنَّهُ آفَةٌ عَظِيمَةٌ وَمَعْصِيَةٌ جَسِيمَةٌ . وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ مَثَالِبِ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِعَادَةِ . فَإِنْ أَنْتَ اجْتَنَبْتهمَا وَأَبْعَدْت عَنْهُمَا وَلَمْ تُسَاكِنْهُمَا وَلَا وَاحِدًا مِنْهُمَا (تَحْظَ بِالسَّعَادَةِ) أَيْ تَمِلْ إلَيْهَا وَتَظْفَرْ بِهَا . وَالسَّعَادَةُ خِلَافُ الشَّقَاوَةِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا (فِي الدَّارَيْنِ) أَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , وَكَذَا فِي الْبَرْزَخِ وَهُوَ مَا بَيْنَهُمَا وَلَكِنَّهُ بِالْآخِرَةِ أَشْبَهُ . فَكَأَنَّ النَّاظِمَ أَلْحَقَهُ بِالْآخِرَةِ (فارشد) مِنْ رَشَدَ أَيْ اتَّخِذْ الرُّشْدَ وَاتَّصِفْ بِهِ فِي ذَاتِك , يُقَالُ رَشَدَ غِذَاء وَفَرِحَ رُشْدًا وَرَشَدًا وَرَشَادًا اهْتَدَى (وَأَرْشِدْ) لِغَيْرِك , مِنْ أَرْشَدَ , لِتَكُونَ عَالِمًا عَامِلًا مُعَلِّمًا , فَتَكُونُ حِينَئِذٍ رَبَّانِيًّا . قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الرُّشْدُ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ مَعَ تَصَلُّبٍ فِيهِ , وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . . (خَاتِمَةٌ): فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّوْبَةِ فَإِنَّ مَعْرِفَتَهَا وَاجِبَةٌ لِوُجُوبِهَا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ , وَلَمْ يَذْكُرْهَا النَّاظِمُ رحمه الله تعالى فِي الْمَنْظُومَةِ إما لِاشْتِهَارِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا , وإما لِكَوْنِ هَذِهِ الْمَنْظُومَةِ خَاتِمَةً لِمَنْظُومَتِهِ الْكُبْرَى فِي الْفِقْهِ . وَذَكَرَهَا الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي صَدْرِ الْآدَابِ الْكُبْرَى . فَرَأَيْت أَنْ أَخْتِمَ بِهَا هَذَا الشَّرْحَ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ:
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: تَلْزَمُ التَّوْبَةُ شَرْعًا لَا عَقْلًا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ . قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ , كُلُّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ قَدْ أَثِمَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَقِيلَ غَيْرَ مَظْنُونٍ . قَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ: تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِمَّا يَظُنُّ أَنَّهُ إثْمٌ . وَقِيلَ لَا , وَلَا تَجِبُ بِدُونِ تَحَقُّقِ إثْمٍ . قَالَ فِي الْآدَابِ: وَالْحَقُّ وُجُوبُ قَوْلِهِ إنِّي تَائِبٌ إلَى اللَّهِ مِنْ كَذَا , وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهُ . وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ صِحَّةِ تَوْبَتِهِ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي مَذْهَبًا ; لِأَنَّ التَّوْبَةَ هِيَ النَّدَمُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ , وَالنَّدَمُ لَا يُتَصَوَّرُ مَشْرُوطًا ; لِأَنَّ الشَّرْطَ إذَا حَصَلَ أَبْطَلَ النَّدَمَ . قَالَ الْقَاضِي: وَإِذَا شَكَّ فِي الْفِعْلِ الَّذِي فَعَلَهُ هَلْ هُوَ قَبِيحٌ أَمْ لَا فَهُوَ مُفَرِّطٌ فِي فِعْلِهِ , وَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْ هَذَا التَّفْرِيطِ , وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَعْرِفَةِ قُبْحِ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ حُسْنِهِ ; لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ أُخِذَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُقْدِمَ عَلَى فِعْلٍ قَبِيحٍ وَلَا عَلَى مَا لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا . فَإِذَا قَدِمَ عَلَى فِعْلٍ يَشُكُّ أَنَّهُ قَبِيحٌ فَإِنَّهُ مُفَرِّطٌ . وَذَلِكَ التَّفْرِيطُ ذَنْبٌ تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهُ . قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: فَمَنْ تَابَ تَوْبَةً عَامَّةً كَانَتْ هَذِهِ التَّوْبَةُ مُقْتَضِيَةً لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ كُلِّهَا إلَّا أَنْ يُعَارِضَ هَذَا الْعَامَّ مُعَارِضٌ يُوجِبُ التَّخْصِيصَ . مِثْلَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الذُّنُوبِ لَوْ اسْتَحْضَرَهُ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ لِقُوَّةِ إرَادَتِهِ إيَّاهُ . أَوْ لِاعْتِقَادِ أَنَّهُ حَسَنٌ . وَتَصِحُّ مِنْ بَعْضِ ذُنُوبِهِ فِي الْأَصَحِّ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ . نَعَمْ لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ أَصَرَّ عَلَى مِثْلِهِ مِثْلُ أَنْ يَتُوبَ مِنْ زِنَاهُ يَوْمَ كَذَا أَوْ فِي فُلَانَةَ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الزِّنَا بِغَيْرِهَا أَوْ بِهَا . وَإِنَّمَا تَابَ مِنْ الزِّنَا الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ أَوَّلًا دُونَ مَا يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ . فَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى أَصْلِ فِعْلِ الزِّنَا . فَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ مِنْهُ حِينَئِذٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَالتَّوْبَةُ فِي اللُّغَةِ الرُّجُوعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى . وَفِي الْعُرْفِ النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ . وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِهَا دَائِمًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا لِأَجْلِ نَفْعِ الدُّنْيَا أَوْ أَذَى النَّاسِ . وَأَنْ لَا يَكُونَ عَلَى إكْرَاهٍ أَوْ إلْجَاءٍ . بَلْ اخْتِيَارٍ حَالَ التَّكْلِيفِ . وَقِيلَ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ قَوْلُهُ اللَّهُمَّ إنِّي تَائِبٌ إلَيْك مِنْ كَذَا وَكَذَا . واستغفر اللَّهَ . وَهُوَ ظَاهِرُ مَا فِي الْمُسْتَوْعِبِ . فَظَاهِرُ هَذَا اعْتِبَارُ التَّوْبَةِ بِالتَّلَفُّظِ وَالِاسْتِغْفَارِ . قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا . قَالَ: وَلَمْ أَجِدْ مَنْ صَرَّحَ بِاعْتِبَارِهِمَا وَلَا أَعْلَمُ لَهُ وَجْهًا انْتَهَى . وَالْمَذْهَبُ عَدَمُ اعْتِبَارِ وَاحِدٍ مِنْهَا . قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَأَنْ يَكُونَ إذَا ذَكَرَهَا يَعْنِي الْمَعْصِيَةَ انْزَعَجَ قَلْبُهُ وَتَغَيَّرَتْ صِفَتُهُ وَلَمْ يَرْتَحْ لِذِكْرِهَا وَلَا يُنَمِّقُ فِي الْمَجَالِسِ صِفَتَهَا . فَمَتَى فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ تَوْبَةً . أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُعْتَذِرَ إلَى الْمَظْلُومِ عَنْ ظُلْمِهِ مَتَى كَانَ ضَاحِكًا مُسْتَبْشِرًا مُطَمْئِنًا عِنْدَ ذِكْرِ غِذَاء اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ النَّدَمِ وَقِلَّةِ الْفِكْرَةِ بِالْجُرْمِ السَّابِقِ , وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِخِدْمَةِ الْمُعْتَذَرِ إلَيْهِ , وَيُجْعَلُ كَالْمُسْتَهْزِئِ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ أَمْ لَا . قَالَ: وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُمْكِنَ الْمُنَازَعَةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ ذَلِكَ وَقْتَ النَّدَمِ وَالْغَرَضُ النَّدَمُ الْمُعْتَبَرُ وَقَدْ وُجِدَ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ تَكَرُّرِهِ كُلَّمَا ذَكَرَ الذَّنْبَ . وَأَنَّ عَدَمَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ النَّدَمِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ وَعَدَمُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ . مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " النَّدَمُ تَوْبَةٌ " أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ . وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَهِيَ تَجْدِيدُ النَّدَمِ إذَا ذَكَرَهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ غِذَاء وَالْأَوَّلُ الْمُعْتَمَدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . مَعَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يُوَافِقُونَ غَيْرَهُمْ فِي أَنَّ تَوْبَتَهُ السَّابِقَةَ لَا تَبْطُلُ بِمُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي ذَلِكَ . قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ: وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ النَّدَمَ تَوْبَةٌ مَعَ شَرْطِ الْعَزْمِ أَنْ لَا يَعُودَ وَرَدُّ غِذَاء مِنْ يَدِهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ النَّدَمُ مَعَ هَذِهِ الشَّرَائِطِ هُوَ التَّوْبَةُ وَلَيْسَ فِيهَا شَرْطٌ بَلْ هِيَ بِمَجْمُوعِهَا شَرْطٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ " النَّدَمُ تَوْبَةٌ " رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَالْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ وَابْنُ غِذَاء وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَاكِمُ غِذَاء مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَرَوَى غِذَاء وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ مَرْفُوعًا " النَّدَمُ تَوْبَةٌ , وَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ " وَلَيْسَ لِلْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يَقُولُوا أَجْمَعْنَا عَلَى احْتِيَاجِهَا إلَى الْعَزْمِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ وَلَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ التَّوْبَةَ . كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ شَرْطِهَا الطَّهَارَةُ وَلَا تَصِحُّ إلَّا بِهَا وَلَيْسَتْ هِيَ الصَّلَاةُ ; وَلِأَنَّ التَّوْبَةَ هِيَ النَّدَمُ وَالْإِقْلَاعُ عَنْ الذَّنْبِ . فَمَتَى ادَّعَى الزِّيَادَةَ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ اللُّغَةُ احْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ . انْتَهَى كَلَامُهُ مُلَخَّصًا مَعَ زِيَادَةٍ فِيهِ . قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَزْمَ رُكْنٌ . وَالْأَمْرُ فِي هَذَا قَرِيبٌ فَإِنَّهُ مُعْتَبَرٌ عِنْدَهُمْ . انْتَهَى . وَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّا مَتَى قُلْنَا الْعَزْمُ رُكْنٌ صَارَ شَطْرًا لَا شَرْطًا . إذْ الرُّكْنُ مِنْ الْمَاهِيَّةِ بِخِلَافِ الشَّرْطِ . فَمَتَى تَوَفَّرَتْ التَّوْبَةُ عَلَى النَّسَقِ الْمَذْكُورِ قُبِلَتْ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَغُفِرَ الذَّنْبُ وَهِيَ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ . كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إنَّهَا نَدَمٌ بِالْقَلْبِ , وَاسْتِغْفَارٌ بِاللِّسَانِ , وَتَرْكٌ بِالْجَوَارِحِ , وَإِضْمَارٌ أَنْ لَا يَعُودَ . .
وَقَالَ غِذَاء فِي تَفْسِيرِهِ: قَالَ عُمَرُ غِذَاء وَمُعَاذٌ رضي الله عنهم: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ أَنْ يَتُوبَ ثُمَّ لَا يَعُودُ إلَى الذَّنْبِ كَمَا لَا يَعُودُ اللَّبَنُ إلَى الضَّرْعِ . كَذَا قَالَ . وَفِي صِحَّةِ هَذَا عَنْهُمْ نَظَرٌ . ثُمَّ لَعَلَّ الْمُرَادَ التَّوْبَةُ الْكَامِلَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهَا . وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هِيَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ بِاللِّسَانِ , وَيَنْدَمَ بِالْقَلْبِ , وَيُمْسِكَ بِالْبَدَنِ . فَظَاهِرُهُ عَدَمُ اعْتِبَارِ إضْمَارِ أَنْ لَا يَعُودَ . قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَلَمْ أَجِدْ مَنْ صَرَّحَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه إلَّا أَنَّ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ أَنْ يَتُوبَ الْعَبْدُ مِنْ الذَّنْبِ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنْ لَا يَعُودَ . .
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَاعْلَمْ أَنَّ التَّوْبَةَ نَدَمٌ يُورِثُ عَزْمًا وَقَصْدًا , وَعَلَامَةُ النَّدَمِ طُولُ الْحُزْنِ عَلَى مَا فَاتَ . وَعَلَامَةُ الْعَزْمِ وَالْقَصْدِ التَّدَارُكُ لِمَا فَاتَ وَإِصْلَاحُ مَا يَأْتِي . فَإِنْ كَانَ الْمَاضِي تَفْرِيطًا فِي عِبَادَةٍ قَضَاهَا , أَوْ غِذَاء أَدَّاهَا , أَوْ خَطِيئَةٍ لَا تُوجِبُ غَرَامَةً حَزِنَ إذْ تَعَاطَاهَا . قَالَ وَمِنْ عَلَامَاتِ التَّائِبِ أَنْ يَغْضَبَ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا غَضِبَ مَاعِزٌ غِذَاء فَأَسْلَمَاهَا إلَى الْهَلَاكِ قَالَ وَهَذَا ذَكَرْنَاهُ مِثَالًا . وَإِنْ كُنَّا لَا نَرَى إلَّا أَنَّ الْعَاصِيَ يَسْتُرُ نَفْسَهُ . وَمِنْهَا أَنْ تَضِيقَ الْأَرْضُ عَلَيْهِ كَمَا ضَاقَتْ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ . فَيَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْحُزْنُ وَالْبُكَاءُ فَيَشْغَلُهُ عَنْ اللَّهْوِ وَالضَّحِكِ . قَالَ وَمَتَى قَصَّرَ فِي قَضَاءِ دَيْنٍ أَوْ رَدِّ غِذَاء دَلَّ عَلَى ضَعْفِ التَّوْبَةِ . انْتَهَى . وَقَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ: قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: التَّوْبَةُ نَدَمُ الْعَبْدِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ , وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ كُلَّمَا ذَكَرَهُ , وَتَكْرَارِ فِعْلِ التَّوْبَةِ كُلَّمَا خَطَرَتْ مَعْصِيَتُهُ بِبَالِهِ , وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عَادَ مُصِرًّا نَاقِضًا لِلتَّوْبَةِ . وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ السَّابِقِ , لَكِنْ أَبُو الْحُسَيْنِ يَقُولُ يَكُونُ نَاقِضًا لِلتَّوْبَةِ . وَعِنْدَ ابْنِ عَقِيلٍ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ النَّدَمِ فَلَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ تَوْبَةٌ شَرْعِيَّةٌ . قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَبُطْلَانُهَا بِالْمُعَاوَدَةِ أَقْرَبُ . قَالَ وَالْأَظْهَرُ مَذْهَبًا وَدَلِيلًا أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِذَلِكَ . وَفِي الْفُصُولِ لِابْنِ عَقِيلٍ أَنَّ الْمُظَاهِرَ إذَا عَزَمَ عَلَى الْوَطْءِ رَاجِعٌ عَنْ تَحْرِيمِهَا بِعَزْمِهِ , وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى مُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ مَعَ التَّصْمِيمِ عَلَى التَّوْبَةِ نَقْضٌ لِلتَّوْبَةِ , فَجَعَلَهُ نَاقِضًا لِلتَّوْبَةِ بِالْعَزْمِ لَا بِغَيْرِهِ , وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ السَّابِقِ وَكَلَامِ أَبِي الْحُسَيْنِ . ثُمَّ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِالذَّنْبِ السَّابِقِ الَّذِي تَابَ مِنْهُ فَهُوَ ضَعِيفٌ , وَإِنْ أَرَادَ انْتِقَاضَ التَّوْبَةِ وَقْتَ الْعَزْمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ , وَأَنَّهُ يُؤَاخَذُ مِنْ الْعَزْمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَهَذَا يُبْنَى عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ . قَدْ فَصَّلَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ ذَلِكَ تَفْصِيلًا حَسَنًا . وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْهَمَّ بِالسَّيِّئَاتِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ لَهَا تَارَةً يَتْرُكُهُ الْهَامُّ بِهِ لِخَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى فَيُكْتَبُ حَسَنَةً , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم حَاكِيًا عَنْ اللَّهِ " إنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّائِي " يَعْنِي مِنْ أَجْلِي وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَمْدُودًا وَمَقْصُورًا . وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ " وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً " وَأَمَّا إنْ تَرَكَهَا خَوْفًا مِنْ الْمَخْلُوقِينَ أَوْ مُرَاءَاةً لَهُمْ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا بِهَذِهِ النِّيَّةِ ; لِأَنَّ تَقْدِيمَ خَوْفِ الْمَخْلُوقِينَ عَلَى خَوْفِ اللَّهِ مُحَرَّمٌ . وَكَذَلِكَ قَصْدُ الرِّيَاءِ مُحَرَّمٌ , فَإِذَا اُقْتُرِنَ بِهِ تَرْكُ الْمَعْصِيَةِ لِأَجْلِهِ عُوقِبَ عَلَى هَذَا التَّرْكِ . وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ لَا تَأْمَنَنَّ سُوءَ عَاقِبَتِهِ , وَلِمَا يَتْبَعُ الذَّنْبَ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ إذَا عَمِلْته - فَذَكَر كَلَامًا - وَقَالَ: وَخَوْفُك مِنْ الرِّيحِ إذَا حَرَّكَتْ سِتْرَ بَابِك وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ وَلَا يَضْطَرِبُ فُؤَادُك مِنْ نَظَرِ اللَّهِ إلَيْك , أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ إذَا عَمِلْته " .
بِمَا أَمْكَنَهُ ثُمَّ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا الْقَدَرُ أَمْ لَا؟ وَأَمَّا إنْ سَعَى فِي حُصُولِ الْمَعْصِيَةِ بِمَا أَمْكَنَهُ ثُمَّ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا الْقَدَرُ فَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا حِينَئِذٍ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ " وَمَنْ سَعَى فِي حُصُولِ الْمَعْصِيَةِ جُهْدَهُ ثُمَّ عَجَزَ عَنْهَا فَقَدْ عَمِلَ . وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ , قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ " . وَدَلَّ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَلَى أَنَّ الْهَامَّ بِالْمَعْصِيَةِ إذَا تَكَلَّمَ بِمَا هَمَّ بِهِ بِلِسَانِهِ أَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى الْهَمِّ ; لِأَنَّهُ قَدْ عَمِلَ بِجَوَارِحِهِ مَعْصِيَةً وَهُوَ التَّكَلُّمُ بِلِسَانِهِ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الَّذِي قَالَ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْت فِيهِ بِمَا عَمِلَ فُلَانٌ , يَعْنِي الَّذِي يَعْصِي اللَّهَ فِي مَالِهِ , قَالَ فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ . وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ قَالَ لَا يُعَاقَبُ عَلَى التَّكَلُّمِ بِمَا هَمَّ بِهِ مَا لَمْ تَكُنْ الْمَعْصِيَةُ الَّتِي هَمَّ بِهَا قَوْلًا مُحَرَّمًا كَالْقَذْفِ وَالْغِيبَةِ وَالْكَذِبِ , فَأَمَّا مَا كَانَ مُتَعَلَّقَهَا الْعَمَلُ بِالْجَوَارِحِ فَلَا يَأْثَمُ بِمُجَرَّدِ التَّكَلُّمِ بِمَا هَمَّ بِهِ . وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِهَذَا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ " وَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا " وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ هُنَا حَدِيثُ النَّفْسِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ " مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ يَعْمَلْ " وَأَمَّا إنْ انْفَسَخَتْ نِيَّةُ الْعَاصِي وَفَتَرَتْ عَزِيمَتُهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مِنْهُ فَهَلْ يُعَاقَبُ عَلَى مَا هَمَّ بِهِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ أَمْ لَا؟ هَذَا عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْهَمُّ بِالْمَعْصِيَةِ خَاطِرًا خَطَرَ وَلَمْ يُسَاكِنْهُ صَاحِبُهُ وَلَمْ يَعْقِدْ قَلْبَهُ عَلَيْهِ بَلْ كَرِهَهُ وَنَفَرَ مِنْهُ , فَهَذَا مَعْفُوٌّ عَنْهُ وَهُوَ كَالْوَسَاوِسِ الرَّدِيئَةِ الَّتِي سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا فَقَالَ ": ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ " وَلَمَّا نَزَلَ قوله تعالى: الْقِسْمُ الثَّانِي: لِلْعَزَائِمِ الْمُصَمِّمَةِ الَّتِي تَقَعُ فِي النُّفُوسِ وَتَدُومُ وَيُسَاكِنُهَا صَاحِبُهَا فَهَذَا أَيْضًا نَوْعَانِ: الْأَوَّلُ: مَا كَانَ عَمَلًا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ كَالشَّكِّ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ أَوْ النُّبُوَّةِ أَوْ الْبَعْثِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ , فَهَذَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَيَصِيرُ بِهِ كَافِرًا وَمُنَافِقًا , وَيَلْتَحِقُ بِهَذَا سَائِرُ الْمَعَاصِي الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقُلُوبِ كَمَحَبَّةِ مَا يَبْغُضُهُ اللَّهُ وَبُغْضِ مَا يُحِبُّهُ , وَالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالْحَسَدِ وَسُوءِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ , عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ أَنَّهُ قَالَ فِي سُوءِ الظَّنِّ إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ فَهُوَ مَعْفُوٌّ . وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ فِي الْحَسَدِ . قَالَ , الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: وَلَعَلَّ هَذَا مَحْمُولٌ مِنْ قَوْلِهِمَا عَلَى مَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ وَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ فَهُوَ يَكْرَهُهُ وَيَدْفَعُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَنْدَفِعُ , لَا عَلَى مَا يُسَاكِنُهُ وَيَسْتَرْوِحُ إلَيْهِ وَيُعِيدُ حَدِيثَ نَفْسِهِ بِهِ وَيُبْدِيهِ . وَالثَّانِي: مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ بَلْ كَانَ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ , كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَتْلِ وَالْقَذْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا أَصَرَّ الْعَبْدُ عَلَى إرَادَةِ ذَلِكَ وَالْعَزْمِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ أَثَرٌ فِي الْخَارِجِ أَصْلًا , فَهَذَا فِي الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا يُؤَاخَذُ بِهِ . قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: سَأَلْت سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ أَيُؤَاخَذُ الْعَبْدُ بالهمة؟ فَقَالَ إذَا كَانَتْ عَزْمًا أُوخِذَ بِهَا . وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ والمتكلمين مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ , وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ إنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا بِالْهُمُومِ وَالْغُمُومِ , وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا: قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: وَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ: وَقِيلَ بَلْ يُحَاسَبُ الْعَبْدُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقِفُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَعْفُو عَنْهُ وَلَا يُعَاقِبُهُ بِهِ , فَيَكُونُ عُقُوبَتُهُ الْمُحَاسَبَةَ , وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ رضي الله عنهم , وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ غِذَاء . وَالْقَوْلُ الثَّانِي لَا يُؤَاخَذُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مُطْلَقًا , وَنُسِبَ ذَلِكَ إلَى نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَمَلًا غِذَاء . انْتَهَى مُلَخَّصًا . وَمَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ أَنَّ مَنْ عَزَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِقَلْبِهِ وَوَطَّنَ النَّفْسَ عَلَيْهَا أَثِمَ فِي اعْتِقَادِهِ وَعَزْمِهِ , وَخَالَفَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ كَمَا قَالَ غِذَاء وَانْتَصَرَ لَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ بِأَنَّ مَذْهَبَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ لِلْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ , وَلَكِنْ قَالُوا إنَّ هَذَا الْعَزْمَ يُكْتَبُ سَيِّئَةً وَلَيْسَتْ السَّيِّئَةُ الَّتِي هَمَّ بِهَا لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْمَلْهَا وَقَطَعَهُ عَنْهَا قَاطِعٌ غَيْرُ خَوْفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْإِنَابَةِ , لَكِنَّ نَفْسَ الْإِصْرَارِ وَالْعَزْمِ مَعْصِيَةٌ فَتُكْتَبُ مَعْصِيَةً , فَإِذَا عَمِلَهَا كُتِبَتْ مَعْصِيَةً ثَانِيَةً , فَإِذَا تَرَكَهَا خَشْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى كُتِبَتْ حَسَنَةً كَمَا فِي الْحَدِيثِ " إنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّائِي " فَصَارَ تَرْكُهُ لَهَا لِخَوْفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُجَاهَدَتُهُ نَفْسَهُ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ فِي ذَلِكَ وَعِصْيَانُهُ هَوَاهُ حَسَنَةٌ . وَأَمَّا الْهَمُّ الَّذِي لَا يُكْتَبُ فَالْخَوَاطِرُ الَّتِي لَا تُوَطَّنُ النَّفْسُ عَلَيْهَا وَلَا يُصَاحِبُهَا عَقْدٌ وَلَا نِيَّةٌ وَلَا عَزْمٌ . وَبِهَذَا ظَهَرَ قَوْلُنَا إنَّ التَّوْبَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ . وَقِيلَ لَا تَصِحُّ تَوْبَةُ غَيْرِ ; عَاصٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذِي ذَنْبٍ يَتُوبُ مِنْهُ . وَقَالَ مَوْلَانَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ فِي غِذَاء: التَّوْبَةُ فَرْضُ عَيْنٍ فِي حَقِّ كُلِّ شَخْصٍ , وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا أَحَدٌ مِنْ الْبَشَرِ , لِأَنَّهُ إنْ خَلَا عَنْ مَعْصِيَةِ الْجَوَارِحِ فَلَا يَخْلُو عَنْ الْهَمِّ بِالذَّنْبِ بِالْقَلْبِ , وَإِنْ خَلَا عَنْهَا فَلَا يَخْلُو عَنْ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ بِإِيرَادِ الْخَوَاطِرِ الْمُتَفَرِّقَةِ الْمُذْهِلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , فَإِنْ خَلَا عَنْهَا فَلَا يَخْلُو عَنْ غَفْلَةٍ وَقُصُورٍ بِالْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَبِصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ , فَلِكُلِّ حَالٍ طَاعَاتٌ وَذُنُوبٌ وَحُدُودٌ وَشُرُوطٌ , فَحِفْظُهَا طَاعَةٌ وَتَرْكُهَا مَعْصِيَةٌ وَالْغَفْلَةُ عَنْهَا ذَنْبٌ , فَيَحْتَاجُ إلَى تَوْبَةٍ وَعَزْمِ الرُّجُوعِ عَنْ التَّعْوِيجِ الَّذِي وُجِدَ إلَى سُنَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي شُرِعَ لَهُ , فَالْكُلُّ مُفْتَقِرٌ إلَى تَوْبَةٍ , وَإِنَّمَا يَتَفَاوَتُونَ فِي الْمَقَادِيرِ , فَتَوْبَةُ الْعَوَامِّ مِنْ الذُّنُوبِ , وَتَوْبَةُ الْخَوَاصِّ مِنْ الْغَفْلَةِ , وَتَوْبَةُ خَاصِّ الْخَاصِّ مِنْ رُكُونِ الْقَلْبِ إلَى مَا سِوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا قَالَهُ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ وَغَيْرُهُ . قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ صِحَّةُ التَّوْبَةِ مِنْ كُلِّ مَا حَصَلَتْ فِيهِ الْمُخَالَفَةُ أَوْ أَدْنَى غَفْلَةٍ وَإِنْ لَمْ يَأْثَمْ . قَالَ وَلَعَلَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقْوَى وَهُوَ مَعْنَى مَا اخْتَارَهُ الشَّيْخُ رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ وَغَيْرُهُ , وَلَعَلَّهُ مَعْنَى كَلَامِ مُجَاهِدٍ: مَنْ لَمْ يَتُبْ إذَا أَصْبَحَ وَأَمْسَى فَهُوَ مِنْ الظَّالِمِينَ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ تَرَكَ التَّوْبَةَ الْوَاجِبَةَ مُدَّةً مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَالْعَمَلِ بِمُوجِبِهَا لَزِمَتْهُ التَّوْبَةُ مِنْ تَرْكِ التَّوْبَةِ تِلْكَ الْمُدَّةِ ; لِأَنَّهُ قَدْ تَرَكَ وَاجِبًا , وَتَرْكُ الْوَاجِبِ مَعَ الْقُدْرَةِ إثْمٌ , وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ . .
وَاعْلَمْ رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى وَوَفَّقَك أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي تَابَ مِنْهُ التَّائِبُ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ أَوْ لِآدَمِيٍّ , وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَرْكِ وَاجِبٍ يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ وَقَضَاؤُهُ كَالصَّلَوَاتِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَنَحْوِهَا أَوْ لَا , كَعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَتَحْلِيلِ مَا حَلَّلَهُ وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمَهُ , فَالْأَوَّلُ لَا بُدَّ مَعَ التَّوْبَةِ - مِنْ التَّقْصِيرِ فِي عَدَمِ الْأَدَاءِ وَفَوْتِ وَقْتِ الْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ - مِنْ قَضَاءِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ حَيْثُ قَدَرَ بِأَيِّ وَجْهٍ أَمْكَنَ . وَالثَّانِي وَهُوَ التَّفْرِيطُ فِي مَعْرِفَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَتَبْجِيلِهِ , وَتَعْظِيمِ مَا عَظَّمَهُ وَتَحْقِيرِ مَا حَقَّرَهُ , وَتَحْلِيلِ مَا حَلَّلَهُ وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمَهُ , غِذَاء مِنْهُ التَّوْبَةُ . فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُوجِبُ الْكُفْرَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِتْيَانِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَإِثْبَاتِ مَا أَنْكَرَ وَإِنْكَارِ مَا كَانَ اعْتَقَدَ مِمَّا يُوجِبُ الْكُفْرَ , وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ , وَإِنْ كَانَ حَقُّ آدَمِيٍّ مَحْضٌ , هَذَا لَا يَكَادُ يُوجَدُ فَكُلُّ حَقٍّ لِآدَمِيٍّ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ اللَّهِ ; لِأَنَّ مُعَاطَاةَ مَا لَا يُشْرَعُ مَعْصِيَةٌ , وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ حَدَّ حُدُودًا يَجِبُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا , وَلَا يَخْلُو حَقُّ الْآدَمِيِّ مِنْ كَوْنِهِ إمَّا يَنْجَبِرُ بِمِثْلِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالْجِرَاحَاتِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ أَوْ لَا , فَالْأَوَّلُ لَا بُدَّ مِنْ رَدِّ كُلِّ غِذَاء لِأَهْلِهَا مِنْ مَالٍ وَنَحْوِهِ وَتَمْكِينِ ذِي الْقِصَاصِ مِنْهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فَإِنْ تَابَ وَنَدِمَ وَأَقْلَعَ وَعَزَمَ أَنْ لَا يَعُودَ وَلَمْ يَرُدَّ الْمَظَالِمَ إلَى أَهْلِهَا فَهَلْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ أَمْ لَا؟ ظَاهِرُ كَلَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ أَنَّ التَّوْبَةَ تُقْبَلُ , وَيَسْقُطُ بِهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْإِقْدَامِ وَانْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ تَعَالَى وَتَعَدِّيهِ حُدُودَهُ , وَيَبْقَى فِي ذِمَّةِ الْعَاصِي مظلمة الْآدَمِيِّ وَمُطَالَبَتُهُ عَلَى حَالِهَا ; لِأَنَّهُ قَالَ نَحْنُ لَا نَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُطَالِبًا بِمَظَالِمِ الْآدَمِيِّينَ وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ هَذَا صِحَّةَ التَّوْبَةِ , كَالتَّوْبَةِ مِنْ السَّرِقَةِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَغَصْبِ الْأَمْوَالِ , فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ مَقْبُولَةٌ وَالْأَمْوَالُ وَالْحُقُوقُ لِلْآدَمِيِّ لَا تَسْقُطُ . وَأَمَّا لَا يَنْجَبِرُ بِمِثْلِهِ بَلْ جَزَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَالْقَذْفِ وَالزِّنَا وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ , فَالتَّوْبَةُ عَنْ هَذَا النَّوْعِ بِالنَّدَمِ وَالْإِقْلَاعِ وَكَثْرَةِ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُغْتَابِ وَنَحْوِهِ وَإِكْذَابِ نَفْسِهِ مِمَّا قَذَفَهُ بِهِ , وَكَثْرَةِ الْإِحْسَانِ لِمَنْ أَفْسَدَ عَلَيْهِ زَوْجَتَهُ وَزَنَى بِهَا , وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إعْلَامِهِ وَلَا اسْتِحْلَالِهِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا اخْتَارَهُ الْقَاضِي وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ وَتِلْمِيذُهُ ابْنُ الْقَيِّمِ وَجَمَاعَةٌ , وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ سَيِّدُنَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ . وَقِيلَ إنْ عَلِمَ بِهِ الْمَظْلُومُ اسْتَحَلَّهُ وَإِلَّا دَعَا لَهُ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ وَلَمْ يُعْلِمْهُ . قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ . وَقَدْ رَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا " مَنْ اغْتَابَ رَجُلًا ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لَهُ مِنْ بَعْدُ غُفِرَ لَهُ غِيبَتُهُ " . وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا " كَفَّارَةُ مَنْ اُغْتِيبَ أَنْ يُسْتَغْفَرَ لَهُ " لِأَنَّ فِي إعْلَامِهِ إدْخَالُ غَمٍّ عَلَيْهِ . قَالَ الْقَاضِي فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ رضي الله عنه إنَّ كَفَّارَةَ الِاغْتِيَابِ مَا رَوَى أَنَسٌ رضي الله عنه وَذَكَرَهُ . وَخَبَرُ أَنَسٍ الْمَذْكُورُ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ , وَذَكَرَ مِثْلَهُ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَفِيهِ سَلْمَانُ بْنُ عَمْرٍو كَذَّابٌ , وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَفِيهِ حَفْصُ بْنُ عُمَرَ غِذَاء مَتْرُوكٌ . وَذَكَرَ أَيْضًا حَدِيثَ أَنَسٍ فِي الْحَدَائِقِ مَعَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّهُ لَا يَذْكُرُ فِيهَا إلَّا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ . .
وَقَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ: مَنْ اغْتَابَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ يُذْكَرُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مِنْ كَفَّارَةِ الْغِيبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنْ اغْتَبْته بِقَوْلِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلَهُ . ذَكَرَهُ غِذَاء فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ , قَالَ وَفِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ . قَالَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ , وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , وَهُمَا هَلْ يَكْفِي فِي التَّوْبَةِ مِنْ الْغِيبَةِ الِاسْتِغْفَارُ لِلْمُغْتَابِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِهِ وَتَحَلُّلِهِ . قَالَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعْلَامِهِ بَلْ يَكْفِيهِ الِاسْتِغْفَارُ وَذِكْرُهُ بِمَحَاسِنِ مَا فِيهِ فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي اغْتَابَهُ فِيهَا . قَالَ وَهَذَا اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ غِذَاء وَغَيْرِهِ . غِذَاء قَالُوا لَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِهِ جَعَلُوا الْغِيبَةَ كَالْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ , فَإِنَّ فِي الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ يَنْتَفِعُ الْمَظْلُومُ بِعَوْدِ نَظِيرِ مَظْلِمَتِهِ إلَيْهِ , فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهَا , وَأَمَّا فِي الْغِيبَةِ فَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ بِإِعْلَامِهِ إلَّا عَكْسُ مَقْصُودِ الشَّارِعِ , فَإِنَّهُ يُوغِرُ صَدْرَهُ وَيُؤْذِيهِ إذَا سَمِعَ مَا رُمِيَ بِهِ , وَلَعَلَّهُ يُهَيِّجُ عَدَاوَتَهُ وَلَا يَصْفُو لَهُ أَبَدًا . وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ فَإِنَّ الشَّارِعَ الْحَكِيمَ لَا يُبِيحُهُ وَلَا يُجَوِّزُهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُوجِبَهُ وَيَأْمُرَ بِهِ , وَمَدَارُ الشَّرِيعَةِ عَلَى تَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا لَا عَلَى تَحْصِيلِهَا وَتَكْمِيلِهَا . انْتَهَى . وَأَمَّا ذِكْرُ الْحَافِظِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ لِحَدِيثِ " إنَّ مِنْ كَفَّارَةِ الْغِيبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنْ اغْتَبْته " فِي الْمَوْضُوعَاتِ , فَقَدْ تَعَقَّبَهُ الْجَلَالُ غِذَاء فِي الْبَدِيعَاتِ بِمَا يُشْعِرُ أَنَّهُ ضَعِيفٌ لَا مَوْضُوعٌ , فَإِنَّهُ قَالَ حَدِيثُ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ غِذَاء فِي الدَّعَوَاتِ وَقَالَ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ ضَعْفٌ وَلَهُ شَاهِدٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ مِنْ قَوْلِهِ أَخْرَجَهُ غِذَاء فِي الشُّعَبِ , وَأَوْرَدَ لَهُ شَاهِدًا حَدِيثَ حُذَيْفَةَ " كَانَ فِي لِسَانِي ذَرَبٌ عَلَى أَهْلِي فَسَأَلْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَيْنَ أَنْتَ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ , ثُمَّ أَوَّلَهُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاسْتِغْفَارِ , رَجَاءَ أَنْ يُرْضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَصْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِبَرَكَةِ اسْتِغْفَارِهِ . هَذَا كَلَامُهُ بِحُرُوفِهِ , وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِي رَائِحَةِ كَلَامِهِ أَنَّ الْحَدِيثَ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ . وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِهِ بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ قَالَ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه: كَفَّارَةُ مَنْ اغْتَبْته أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ لِسُفْيَانَ بْنِ غِذَاء: التَّوْبَةُ مِنْ الْغِيبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنْ اغْتَبْته , فَقَالَ سُفْيَانُ بَلْ تَسْتَغْفِرُهُ مِمَّا قُلْت فِيهِ , فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَا تُؤْذِهِ مَرَّتَيْنِ قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَمِثْلُ قَوْلِ ابْنِ الْمُبَارَكِ اخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَابْنُ الصَّلَاحِ الشَّافِعِيُّ فِي فَتَاوِيهِ . وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رضي الله عنه بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ: فَكُلُّ غِذَاء فِي الْعِرْضِ مِنْ اغْتِيَابِ صَادِقٍ وَبَهْتِ كَاذِبٍ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْقَذْفِ , إذْ الْقَذْفُ قَدْ يَكُونُ صَادِقًا فَيَكُونُ غِيبَةً , وَقَدْ يَكُونُ كَاذِبًا فَيَكُونُ بَهْتًا , وَاخْتَارَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَا يُعْلِمُهُ بَلْ يَدْعُو لَهُ دُعَاءً يَكُونُ إحْسَانًا إلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ مَظْلِمَتِهِ كَمَا رُوِيَ فِي الْأَثَرِ , وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ إعْلَامِهِ , فَإِنَّ فِي إعْلَامِهِ زِيَادَةَ إيذَاءٍ لَهُ , فَإِنَّ تَضَرُّرَ الْإِنْسَانِ بِمَا عَلِمَهُ مِنْ شَتْمِهِ أَبْلَغُ مِنْ تَضَرُّرِهِ بِمَا لَا يَعْلَمُ . ثُمَّ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَ الْعُدْوَانِ عَلَى الظَّالِمِ أَوَّلًا إذْ النُّفُوسُ لَا تَقِفُ غَالِبًا عِنْدَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ , فَفِي إعْلَامِهِ هَذَانِ الفسادان . وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ ثَالِثَةٌ وَلَوْ كَانَتْ بِحَقٍّ وَهُوَ زَوَالُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ كَمَالِ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ أَوْ تَجَدُّدِ الْقَطِيعَةِ وَالْبِغْضَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْجَمَاعَةِ وَنَهَى عَنْ الْفُرْقَةِ , وَهَذِهِ الْمَفْسَدَةُ قَدْ تَعْظُمُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ , وَلَيْسَ فِي إعْلَامِهِ فَائِدَةٌ إلَّا تَمْكِينَهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ كَمَا لَوْ عَلِمَ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعَاقِبَ إمَّا بِالْمِثْلِ إنْ أَمْكَنَ أَوْ بِالتَّعْزِيرِ أَوْ بِالْحَدِّ . وَإِذَا كَانَ فِي الْإِيفَاءِ مِنْ الْجِنْسِ مَفْسَدَةٌ عَدَلَ إلَى غَيْرِ الْجِنْسِ , كَمَا فِي الْقَذْفِ وَالْفِرْيَةِ وَالْجِرَاحِ إذَا خِيفَ الْحَيْفُ . وَهُنَا قَدْ لَا يَكُونُ حَقُّهُ إلَّا فِي غَيْرِ الْجِنْسِ , أَمَّا الْعُقُوبَةُ أَوْ الْأَخْذُ مِنْ الْحَسَنَاتِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ غِذَاء لِأَخِيهِ فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ فَلِيَأْتِهِ فَلْيَسْتَحِلَّهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَيْسَ فِيهِ دِرْهَمٌ وَلَا دِينَارٌ إلَّا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ , فَإِنْ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ حَسَنَاتِ صَاحِبِهِ فَأُعْطِيهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ فَأُلْقِيَتْ عَلَى صَاحِبِهِ ثُمَّ يُلْقَى فِي النَّارِ " وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيُعْطِيهِ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً بَدَلَ الْحَسَنَةِ " فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ لِلسَّيِّئَاتِ " فَالدُّعَاءُ لَهُ وَالِاسْتِغْفَارُ إحْسَانٌ إلَيْهِ , وَكَذَلِكَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بَدَلُ الذَّمِّ لَهُ , وَهَذَا عَامٌّ فِيمَنْ طَعَنَ عَلَى شَخْصٍ أَوْ لَعَنَهُ أَوْ تَكَلَّمَ بِمَا يُؤْذِيهِ أَمْرًا أَوْ خَبَرًا بِطَرِيقِ الِاقْتِدَاءِ أَوْ التَّحْضِيضِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ , فَإِنَّ أَعْمَالَ اللِّسَانِ أَعْظَمُ مِنْ أَعْمَالِ الْيَدِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا , حَتَّى وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلٍ أَوْ شُبْهَةٍ ثُمَّ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ , فَإِنَّ كَفَّارَةَ ذَلِكَ أَنْ يُقَابِلَ الْإِسَاءَةَ إلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ بِالشَّهَادَةِ لَهُ بِمَا فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ وَالشَّفَاعَةِ لَهُ بِالدُّعَاءِ , فَيَكُونُ الثَّنَاءُ وَالدُّعَاءُ بَدَلَ الطَّعْنِ وَاللَّعْنِ . وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الطَّعْنِ وَاللَّعْنِ الْجَارِي بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ أَوْ غَيْرِ سَائِغٍ , كَالتَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ , كَمَا يَقَعُ بَيْنَ أَصْنَافِ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالنُّهَى , مِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ تَارَةً بِتَأْوِيلٍ مُجَرَّدٍ وَتَارَةً بِتَأْوِيلٍ مَشُوبٍ بِهَوًى وَتَارَةً بِهَوًى مَحْضٍ , بَلْ تَخَاصُمُ هَذَا الضَّرْبِ بِالْكَلَامِ وَالْكُتُبِ كَتَخَاصُمِ غَيْرِهِمْ بِالْأَيْدِي وَالسِّلَاحِ , وَهُوَ شَبِيهٌ بِقِتَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ وَالْبَغْيِ وَالطَّائِفَتَيْنِ الْبَاغِيَتَيْنِ وَالْعَادِلَتَيْنِ مِنْ وَجْهٍ . .
قَالَ: وَهَذَا بَابٌ نَافِعٌ جِدًّا . فَعَلَى هَذَا لَوْ سَأَلَ الْمَقْذُوفُ وَالْمَسْبُوبُ لِقَاذِفِهِ هَلْ فَعَلَ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الِاعْتِرَافُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ , إذْ تَوْبَتُهُ صَحَّتْ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّدَمِ , وَفِي حَقِّ الْإِنْسَانِ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَنَحْوِهِ . وَهَلْ يَجُوزُ الِاعْتِرَافُ أَوْ يُسْتَحَبُّ أَوْ يُكْرَهُ , الْأَشْبَهُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ , فَقَدْ يَكُونُ الِاعْتِرَافُ أَصْفَى لِلْقُلُوبِ كَمَا يَجْرِي بَيْنَ غِذَاء مِنْ ذَوِي الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ , وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ . وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ مَفْسَدَةُ الْعُدْوَانِ عَلَى النَّاسِ أَوْ رُكُوبُ كَبِيرَةٍ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِرَافُ حِينَئِذٍ . قَالَ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَكْذِبَ بِالْجُحُودِ الصَّرِيحِ , لِأَنَّ الْكَذِبَ الصَّرِيحَ مُحَرَّمٌ وَالْمُبَاحُ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ هَلْ هُوَ التَّعْرِيضُ أَوْ التَّصْرِيحُ , فِيهِ خِلَافٌ وَتَقَدَّمَ , فَمَنْ جَوَّزَ التَّصْرِيحَ هُنَاكَ فَهَلْ يُجَوِّزُهُ هُنَا , فِيهِ نَظَرٌ , وَلَكِنْ يُعَرِّضُ , فَإِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ , فَإِذَا اُسْتُحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ وَيُعَرِّضَ ; لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ بِالِاسْتِحْلَافِ , فَإِنَّهُ إذَا تَابَ وَصَحَّتْ تَوْبَتُهُ لَمْ يَبْقَ لِذَلِكَ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلَا تَجِبُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ . نَعَمْ مَعَ عَدَمِ التَّوْبَةِ وَالْإِحْسَانِ إلَى الْمَظْلُومِ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى عُدْوَانِهِ وَظُلْمِهِ , فَإِذَا أَنْكَرَ بِالتَّعْرِيضِ كَانَ كَاذِبًا , فَإِذَا حَلَفَ كَانَتْ يَمِينُهُ غَمُوسًا . وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَيْضًا وَقَدْ سُئِلْت عَنْ نَظَرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ رَجُلٌ تَعَرَّضَ لِامْرَأَةِ غَيْرِهِ فَزَنَى بِهَا ثُمَّ تَابَ مِنْ ذَلِكَ , وَسَأَلَهُ زَوْجُهَا عَنْ ذَلِكَ فَأَنْكَرَ فَطَلَبَ اسْتِحْلَافَهُ , فَإِنْ حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْفِعْلِ كَانَتْ يَمِينُهُ غَمُوسًا , وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ قَوِيَتْ التُّهْمَةُ , وَإِنْ أَقَرَّ جَرَى عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا مِنْ الشَّرِّ أَمْرٌ عَظِيمٌ . قَالَ فَأَفْتَيْته أَنَّهُ يَضُمُّ إلَى التَّوْبَةِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى الْإِحْسَانَ إلَى الزَّوْجِ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ أَوْ الصَّدَقَةِ عَنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ ذَابًّا إيذَاءَهُ لَهُ فِي أَهْلِهِ , فَإِنَّ الزِّنَا بِهَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقُّ زَوْجِهَا مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ فِي عِرْضِهِ , وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يَنْجَبِرُ بِالْمِثْلِ كَالدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْقَذْفِ الَّذِي جَزَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ , فَتَكُونُ تَوْبَةُ هَذَا كَتَوْبَةِ الْقَاذِفِ وَتَعْرِيضُهُ كَتَعْرِيضِهِ , وَحَلِفُهُ عَلَى التَّعْرِيضِ كَحَلِفِهِ . وَأَمَّا لَوْ ظَلَمَهُ فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إيفَاءِ الْحَقِّ فَإِنَّ لَهُ بَدَلًا . وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه بِالْفَرْقِ بَيْنَ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ وَتَوْبَةِ الْقَاذِفِ . قَالَ: وَهَذَا الْبَابُ وَنَحْوُهُ فِيهِ خَلَاصٌ عَظِيمٌ , وَتَفْرِيجُ كُرُبَاتٍ لِلنُّفُوسِ مِنْ آثَارِ الْمَعَاصِي وَالْمَظَالِمِ , فَإِنَّ الْفَقِيهَ كُلَّ الْفَقِيهِ الَّذِي لَا يُؤَيِّسُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَلَا يُجَرِّئُهُمْ عَلَى مَعَاصِيهِ , وَجَمِيعُ النُّفُوسِ لَا بُدَّ أَنْ تُذْنِبَ فَتَعْرِيفُ النُّفُوسِ مَا يُخَلِّصُهَا مِنْ الذُّنُوبِ مِنْ التَّوْبَةِ وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَاتِ كَالْكَفَّارَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ فَوَائِدِ الشَّرِيعَةِ . انْتَهَى . وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ عَلَى أَنَّ الزِّنَا حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ , وَأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِحْلَالَ مِنْهُ بَعْدَ وُقُوعِ غِذَاء لَا إبَاحَتَهَا ابْتِدَاءً كَالدَّمِ وَالْقَذْفِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ آدَمِيٌّ أَنَّهُ يُلَاعِنُ زَوْجَتَهُ وَيَفْسَخُ نِكَاحَهَا لِأَجْلِ التُّهْمَةِ بِهِ وَغَلَبَةِ ذَلِكَ عَلَى ظَنِّهِ . وَإِنَّمَا يَتَحَالَفُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ . انْتَهَى . قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَلِأَنَّ الزَّوْجَ يُمْنَعُ مِنْ وَطْئِهَا زَمَنَ الْعِدَّةِ . وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِمْ أَنَّ الْحَدَّ كَفَّارَةٌ أَيْ فِي حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَأَمَّا حَقُّ الْآدَمِيِّ فَالْكَلَامُ فِيهِ كَغَيْرِهِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ , وَلِهَذَا لَوْ اقْتَصَّ مِنْ الْقَاتِلِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ , مَعَ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ , فَأَوْلَى أَنْ لَا يَسْقُطَ حَقُّ الْآدَمِيِّ هُنَا . وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَخْتَصَّ بِعُقُوبَةٍ فِي الدُّنْيَا سِوَى الْحَدِّ الَّذِي هُوَ حَقُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقِصَاصِ وَقَذْفِ الْآدَمِيِّ بِزِنًا أَوْ غَيْرِهِ بِشَيْءٍ كَمَا فِي الْآدَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
(تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ) تَوْبَةُ الْمُرَابِي بِأَخْذِ رَأْسِ مَالِهِ وَبِرَدِّ رِبْحِهِ إنْ أَخَذَهُ . وَتَوْبَةُ الْمُبْتَدِعِ أَنْ يَعْتَرِفَ بِأَنَّ مَا عَلَيْهِ بِدْعَةٌ . قَالَ فِي الشَّرْحِ: فَأَمَّا الْبِدْعَةُ فَالتَّوْبَةُ مِنْهَا بِالِاعْتِرَافِ بِهَا , وَالرُّجُوعِ عَنْهَا , وَاعْتِقَادِ ضِدِّ مَا كَانَ يَعْتَقِدُ مِنْهَا . وَفِي الرِّعَايَةِ: مَنْ كَفَرَ بِبِدْعَةٍ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ , قِيلَ إنْ اعْتَرَفَ بِهَا وَإِلَّا فَلَا . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ غِذَاء فِي الرَّجُلِ يُشْهَدُ عَلَيْهِ بِالْبِدْعَةِ فَيَجْحَدُ: لَيْسَتْ لَهُ تَوْبَةٌ إنَّمَا التَّوْبَةُ لِمَنْ اعْتَرَفَ فَأَمَّا مَنْ جَحَدَ فَلَا تَوْبَةَ لَهُ . وَفِي إرْشَادِ ابْنِ عَقِيلٍ الرَّجُلُ إذَا دَعَا إلَى بِدْعَةٍ ثُمَّ نَدِمَ عَلَى مَا كَانَ , وَقَدْ ضَلَّ بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ وَمَاتُوا فَإِنَّ تَوْبَتَهُ صَحِيحَةٌ إذَا وُجِدَتْ الشَّرَائِطُ , وَيَجُوزُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ وَيَقْبَلَ تَوْبَتَهُ وَيُسْقِطَ ذَنْبَ مَنْ ضَلَّ بِهِ بِأَنْ يَرْحَمَهُ وَيَرْحَمَهُمْ , وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِبَعْضِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ أَبُو إسْحَاقَ بْنُ غِذَاء , وَهُوَ مَذْهَبُ الرَّبِيعِ بْنِ نَافِعٍ , وَأَنَّهَا لَا تُقْبَلُ , ثُمَّ احْتَجَّ بِالْأَثَرِ الْإِسْرَائِيلِيِّ الَّذِي فِيهِ " فَكَيْفَ مَنْ أَضْلَلْت " , وَبِحَدِيثِ " مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " وَبِمَا رَوَى أَبُو حَفْصٍ غِذَاء عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا , " إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ احْتَجَبَ التَّوْبَةَ عَنْ كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ " وَاخْتَارَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ صِحَّةَ التَّوْبَةِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ وَصَوَّبَهُ , وَقَالَ إنَّهُ قَوْلُ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَغَلِطَ مَنْ اسْتَثْنَى بَعْضَ الذُّنُوبِ , كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ بِعَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ الدَّاعِيَةِ بَاطِنًا , وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يَتُوبُ عَلَى أَئِمَّةِ الْكُفْرِ الَّذِينَ هُمْ أَعْظَمُ مِنْ أَئِمَّةِ الْبِدَعِ . انْتَهَى . وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: التَّوْبَةُ مِنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ مَقْبُولَةٌ , خِلَافًا لِإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْقَاتِلِ وَلَا الزِّنْدِيقِ ثُمَّ بَحَثَ الْمَسْأَلَةَ وَقَالَ: الزِّنْدِيقُ إذَا أَظْهَرَ لَنَا هَذَا يَجِبُ أَنْ نَحْكُمَ بِإِيمَانِهِ بِالظَّاهِرِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَافِرًا ; لِأَنَّ الزَّنْدَقَةَ نَوْعُ كُفْرٍ , فَجَازَ أَنْ تَحْبَطَ بِالتَّوْبَةِ كَسَائِرِ الْكُفْرِ مِنْ التوثن , وَالتَّمَجُّسِ , وَالتَّهَوُّدِ , وَالتَّنَصُّرِ , وَكَمَنْ تَظَاهَرَ بِالصَّلَاحِ إذَا أَتَى مَعْصِيَةً وَتَابَ مِنْهَا . قَالَ وَلَيْسَ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا مَعْرِفَةَ الْبَاطِنِ جُمْلَةً وَإِنَّمَا الْمَأْخُوذُ عَلَيْنَا حُكْمُ الظَّاهِرِ , فَإِذَا بَانَ فِي الظَّاهِرِ حُسْنُ طَرِيقَتِهِ وَتَوْبَتِهِ وَجَبَ قَبُولُهَا وَلَمْ يَجُزْ رَدُّهَا لِمَا بَيَّنَّا , وَأَنَّ جَمِيعَ الْأَحْكَامِ تَتَعَلَّقُ بِهَا . قَالَ: وَلَمْ أَجِدْ لَهُمْ شُبْهَةً أُورِدُهَا إلَّا أَنَّهُمْ حَكَوْا عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَتَلَ زِنْدِيقًا وَلَا أَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ , فَإِنَّ الْإِمَامَ إذَا رَأَى قَتْلَهُ لِكَوْنِهِ سَاعِيًا فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ سَاغَ لَهُ ذَلِكَ , فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ تَوْبَتُهُ لَمْ تُقْبَلْ فَلَا بِدَلَالَةِ أَنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُمْ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ , وَيُحْكَمُ بِصِحَّتِهَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي غَيْرِ إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُمْ , فَلَيْسَ حَيْثُ لَمْ يَسْقُطْ الْقَتْلُ لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ . قَالَ: وَلَعَلَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رضي الله عنه عَنَى بِقَوْلِهِ لَا تُقْبَلُ فِي إسْقَاطِ الْقَتْلِ , فَيَكُونُ مَا قَبْلَهُ هُوَ مَذْهَبُهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً . انْتَهَى . وَاَلَّذِي جَزَمَ بِهِ الْمُتَأَخِّرُونَ كَالْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى وَالْغَايَةِ وَغَيْرِهَا عَدَمُ قَبُولِ تَوْبَةِ زِنْدِيقٍ فِي الدُّنْيَا , يَعْنِي بِحَسْبِ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْمُنَافِقُ , يَعْنِي مَنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَيُخْفِي الْكُفْرَ , وَلَا مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ . واستوجه فِي الْغَايَةِ أَنَّ أَقَلَّهُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ كَعَادَةِ حَائِضٍ , وكالحلولية وَالْإِبَاحِيَّةِ , وَمَنْ يُفَضِّلُ مَتْبُوعَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , أَوْ أَنَّهُ إذَا حَصَلَتْ لَهُ الْمَعْرِفَةُ وَالتَّحْقِيقُ سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ , أَوْ أَنَّ الْعَارِفَ الْمُحَقِّقَ يَجُوزُ لَهُ التَّدَيُّنُ بِدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ , وَلَا مَنْ سَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَوْ مَلَكًا صَرِيحًا أَوْ تنقصه , وَلَا لِسَاحِرٍ الَّذِي يَكْفُرُ بِسِحْرِهِ , وَيُقْتَلُونَ بِكُلِّ حَالٍ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَمَنْ صَدَقَ مِنْهُمْ فِي تَوْبَتِهِ قُبِلَتْ بَاطِنًا , وَمَنْ أَظْهَرَ الْخَيْرَ وَأَبْطَنَ الْفِسْقَ فَكَالزِّنْدِيقِ فِي تَوْبَتِهِ , وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّهُ لَمْ يُوجِدْ بِالتَّوْبَةِ سِوَى مَا يُظْهِرُهُ . وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِ ابْنِ عَقِيلٍ تُقْبَلُ . قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَهُوَ أَوْلَى فِي الْكُلِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ انْتَهَى . وَقَالَ الْقَاضِي: سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه عَنْ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " أَنَّ اللَّهَ احْتَجَرَ التَّوْبَةَ عَنْ كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ " وَحَجْرُ التَّوْبَةَ ايش مَعْنَاهُ؟ قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُوَفَّقُ وَلَا يُيَسَّرُ صَاحِبُ بِدْعَةٍ . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ غِذَاء قدس اللَّهُ رُوحَهُ: لِأَنَّ اعْتِقَادَهُ كَذَلِكَ يَدْعُوهُ إلَى أَنْ لَا يَنْظُرَ نَظَرًا تَامًّا إلَى دَلِيلِ خِلَافِهِ فَلَا يَعْرِفُ الْحَقَّ , وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ: إنَّ الْبِدْعَةَ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ وَقَالَ أَبُو غِذَاء غِذَاء وَغَيْرُهُ: إنَّ الْمُبْتَدِعَ لَا يَرْجِعُ . وَقَالَ أَيْضًا: التَّوْبَةُ مِنْ الِاعْتِقَادِ الَّذِي كَثُرَ مُلَازَمَةُ صَاحِبِهِ لَهُ وَمَعْرِفَتُهُ بِحُجَجِهِ يَحْتَاجُ إلَى مَا يُقَابِلُ ذَلِكَ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ وَالْأَدِلَّةِ . وَمِنْ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " اُقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَبْقُوا شَبَابَهُمْ " قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ: لِأَنَّ الشَّيْخَ قَدْ سَعَى فِي الْكُفْرِ فَإِسْلَامُهُ بَعِيدٌ بِخِلَافِ الشَّابِّ فَإِنَّ قَلْبَهُ لَيِّنٌ فَهُوَ قَرِيبٌ إلَى الْإِسْلَامِ .
مِنْ إثْمِ الْغَصْبِ أَمْ لَا؟ (الثَّانِي) سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه عَنْ رَجُلٍ غَصَبَ رَجُلًا شَيْئًا فَمَاتَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَلَهُ وَرَثَةٌ , وَنَدِمَ الْغَاصِبُ فَرَدَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ عَلَى وَرَثَتِهِ . فَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ قَدْ بَرِيءَ مِنْ إثْمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ إثْمِ الْغَصْبِ الَّذِي غَصَبَ . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ: أَمَّا إثْمُ الْغَصْبِ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ , وَقَدْ خَرَجَ مِمَّا كَانَ أَخَذَ . وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ غِذَاء: لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمَظْلُومِ الَّذِي أُخِذَ مَالُهُ وَأُعِيدَ إلَى وَرَثَتِهِ , بَلْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الظَّالِمَ بِمَا حَرَمَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي حَيَاتِهِ . وَقَالَ فِي مَكَانٍ آخَرَ: تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْقَاتِلِ وَغَيْرِهِ مِنْ الظَّلَمَةِ , فَيَغْفِرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِالتَّوْبَةِ الْحَقَّ الَّذِي لَهُ . وَأَمَّا حُقُوقُ الْمَظْلُومِينَ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُوَفِّيهِمْ إيَّاهَا إمَّا مِنْ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ , وَإِمَّا مِنْ عِنْدِهِ . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ حِكَايَةً عَنْ الْعُلَمَاءِ: فَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ مِنْ مَظَالِمِ الْعِبَادِ فَلَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ إلَّا بِرَدِّهِ إلَى صَاحِبِهِ وَالْخُرُوجِ عَنْهُ , عَيْنًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهِ فَالْعَزْمُ أَنَّهُ يُؤَدِّيهِ إذَا قَدَرَ فِي أَعْجَلِ وَقْتٍ وَأَسْرَعِهِ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِهَذَا , وَأَنَّهُ لَا عِقَابَ عَلَيْهِ لِلْعُذْرِ وَلِلْعَجْزِ . قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَقَدْ أَفْتَى بِهَذَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي عَصْرِهِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَصْحَابِنَا . وَشَرَطَ الْمَالِكِيُّ فِي جَوَابِهِ أَنْ يَكُونَ اسْتِدَانَةً لِمَصْلَحَةٍ لَا سَفَهًا . انْتَهَى .
|